السبت، 19 مايو 2012

تواضع المثقّف أم استقالة المتلقّي

"أن أفكّر هو أن أقول "لا".. قد تتحوّل هذه "اللّا" فيما بعد إلى نعم ، ولكنّ هذه ال"نّعم" ستكون "نعم" أخرى، "نعم" جذورها "اللّا" .. في البداية إذن: لا ..لا  لإطلاق صفة التّواضع على الأشخاص "المهمّين" الّذين تلتقيهم ، مهما كان شأنهم. لا ..
 إنّها صفة تضعك مباشرة في ميزان تفاضليّ و تفرض عليك علاقة مغلقة سقفها هو إعجابك بهذا الآخر و كأنّك لا تنتظر شيئا سوى ذلك الإحساس السّاذج ب"قيمتك" عن طريقه و كأنّك تتسوّل نرجسيّتك منه أو بوساطته وكأنّك تنتشي باستغراب و شكّ يتراوح بين التّصديق و عدمه مردّدا داخلك :" كيف  لهذا الشّخص رفيع الشّأن ،أن يهتمّ بي أنا قليله ؟ كيف لهذا الشّخص ذي القدر العالي أن يعير اهتماما لهذا الشّخص "الهامشيّ" الّذي هو أنا؟ إنّه من دون شكّ شخص متواضع" ...

 ليست دوافع الرّفض، رفض نعت التّواضع، دوافع  نرجسيّة ،مثلما قد يبدو. على الإطلاق . إنّها دوافع أخلاقيّة ، لأنّ الانفتاح "الندّيّ" على العالم، بما يحتويه من موجودات و أفكار، واجب أخلاقيّ. أقصد الأخلاق في معناها "الوجودي" إن صحّ التّعبير أي أخلاق المسؤوليّة و المساءلة و الجدل و المشاركة . الاحترام؟ طبعا في إطار الاحترام و الحياء. من الآخر؟ مؤكّد ، ولكن ، من الأنا أيضا،  من دون شكّ ، و بنفس المقدار. فالحدود المختارة و الواعية الّتي نرسمها طوعا في علاقتنا بالآخرين  ،شيء ، و العوائق الإجباريّة الّتي يرسمها  "احتباسنا" في غالبيّة الأحيان ، شيء آخر .أعتقد  أنّ سمة  الأفقيّة في العلاقات الإنسانيّة هي الّتي تجعل الإنسان حرّا حين تعتقه من الانحباس داخل فكرة  "الفوق و التّحت" وذلك ما يجعلها أكثر ثراء و خصوبة،  فالرؤية ضمن العلاقة الأفقيّة ، تكون أكثر اتّساعا و شسوعا من الرّؤية داخل المسافة العموديّة المزعومة و الضّيقة التّي تفصلنا عن بعضنا البعض عندما تندرج العلاقة في نسقها العموديّ و التّفاضليّ و هذا بغضّ النّظر عن "حجم" النّاس لأنّ هؤلاء النّاس ليسوا أكياسا  مغلقة تتدلّى في الفضاء ثمّ تنزل من حين إلى آخر إلى الأرض، هم بشر أوّلا ولكنّهم أيضا جزء من هذ العالم  المدهش دهشة نحن شركاء  في صنعها  بحواسّنا و أفكارنا و ليس بانبهارنا الميّت . من المؤكّد ، من زاوية انطباعيّة على الأقلّ ، أن هناك من يبدو ( أو من هو فعلا) "أثرى" من الآخر ،  "أكثر" تجربة ،  "أكثر" معرفة  ، و لكنّ هذا الثّراء و هذه التّجربة و هذه المعرفة وكلّ هذه الصّفات  ليست الشّخص ذاته ، هو يحملها و لكنّها ليست هو. إنّها مكتسبات ، عبر التّجربة الإنسانيّة في معناها الجمعي و الكوني. لا أسعى هنا إلى تجريد الأشخاص الأثرياء في تجاربهم و معارفهم من صفاتهم ، بل  إلى أن أغيّر زاوية النّظر إليهم: إنّهم موازون لصفاتهم ، هم ليسوا لا أكبر و لا أصغر ، لا متواضعين و لا متكبّرين ، هم أصدقاء الخصوبة  الإنسانيّة العامةّ ،هم أصدقاء الوجود الفسيح و محاربو  القحط ذلك العدوّ الانسانيّ المشترك. وعلاقتنا معهم أو بالأحرى مع  إنتاجاتهم و إبداعاتهم تندرج على الأرجح وفق هذه الزّاوية . باختصار ، نحن كلّنا عوالم مفتوحة على بعضها البعض. النّافذة تفتح على الأفق، و الأفق يفتح على النّافذة حتّى و إن كانت مغلقة، الجرح الصّغير في الإصبع يفتح على الهواء المطلق، ليست المسألة مسألة حجم،  فالنّافذة ندّ للأفق لأنّهما  مفتوحان على بعضهما البعض.

    أنا أفضّل ، في حالة الإجبار القصوى على الوصف (و هنا عليّ أن أبتسم قليلا) نعوتا مفتوحة ، أفقيّة لا تضعنا في ميزان تفاضليّ مباشر ، نعوتا مثل :  كريم ، خصب ، ثريّ .. هذه النّعوت تلامس الشّخص دون أن تلتصق به ، كما أنّها لا تحتوي على التباسات نرجسيّة...فعندما أقول فلان كريم مثلا، أستطيع أن أقول في سرّي: مثلي ، كريم مثلي.. كما أستطيع ألّا أقول "مثلي" دون أن يتغيّر المعنى ، فصفة الكرم ، صفة حرّة توجد خارج موصوفها و تكاد تكون مشاعة، كما يمكن ألّا يكون ذلك الفلان في لحظة كرم أو في حالة كرم حينها، فلا يغيّر ذلك أيضا شيئا كبيرا لأنّني و بكلّ بساطة أستطيع أن أدير جوعي و عطشي للمعرفة إلى أماكن أخرى  مفتوحة من العالم، إلى أماكن أخرى في حالة كرم، يكفي أن أفتح عينيّ بالقدر الكافي . أمّا عندما أقول فلان متواضع ، حتّى و إن ردّدت في سرّي : "مثلي، متواضع مثلي" ، فإنّ ذلك يغلق أفق التّواصل ويجعل العلاقة تراتبيّة وميّتة و يضعنا ، إمّا أنا وحدي ، أو الآخرون باستثنائي أنا و فلان ، في مرتبة دونيّة.  

قد أكون أطنبت في الحديث عن تفصيلة بسيطة ربّما لا تستدعي اهتماما كبيرا ففي أحيان كثيرة،عادة  ما ننعت شخصا ما بالتّواضع على سبيل المجاملة أو الشّكر او الامتنان ، ولكن  حين ينحصر اهتمامنا  في هذه الصّفة  و حين يتكرّر دائما و أبدا و بنفس  الطّريقة مع أشخاص نعتبرهم مهمّين و مثرين لنا ، يصبح ذلك مدعاة للقلق ، وكأنّ المتلقّي قد انسحب تماما من السّاحة و أصبح موجودا بالوكالة، وكالة المتواضعين  من كلّ مكان... ففي كلّ مرّة ينتهي فيها لقاء مع شخصيّة معروفة سواء كانت كاتبا   أو جامعيّا  أو شخصيّة سياسيّة  ، أرى من مكاني  ، الكثير من المهتمّين بالشّأن الثّقافي أو السّياسي، يجتمعون فيما بينهم ، ينظرون إلى بعضهم البعض في  ظفر، ثمّ ينطقون في نفس الوقت ، في دهشة  وانتشاء ، بتلك الكلمة السريّة : ياله من شخص متواضع .. أمّا هواجس أسئلة الوجود ، أمّا مطبّات الحوار  ،أمّا تلك المغامرة ، أمّا ما يمكن يكون قد تسرّب إلينا من أوهام أو مغالطات ، عن قصد أو غير قصد ،  فأشياء غير مهمّة  ما دام ذلك الشّخص ، تماما مثلما حدسنا منذ البداية و ياللعبقريّة ، متواضع ، متواضع جدّا ..