الاثنين، 13 فبراير 2012

بورتريه

رجل في السّتين أو يزيد من عمره , نحيف , متوسّط الطّول , التقوّس الطّفيف في ظهره  يجعل  كتفيه بارزين قليلا , يلبس معطفا طويلا من القماش  , يمشي بحذر بين زبائن المقهى مثل شبح , يمسح بعناية فائقة الطّاولة الّتي سيضع عليها الطّعام  لاحقا و كأنّه يداعب جسد امرأة , يأتي بصحن فيه طعام , يضعه على الطّاولة .. , يضرب بعصبيّة على الطّاولة بكلتا يديه , يكفر, يزعق, يتّجه نحوي فجأة ثمّ يعود إلى طاولته في سرعة خاطفة , يداه لا تكفّان عن  الحركة , عيناه متوتّرتان , متوجّس , لا يكاد يبدأ في الأكل حتّى  ينقطع عنه , يمشي نحوي مرّة أخرى , ينظر إليّ , يمدّ يده نحو علبة سجائري , يخرج سيجارة , يشيح بنظره إلى الطّاولة الّتي على يميني حيث يجلس بعض الزّبائن , يغمز لي , يبدأ في الحديث و كأنّه على خشبة مسرح : التوّنسي عندما يدخّن يفعل هكذا ( و يرفع يديه بحيث يرى الجميع السّيجارة الّتي في يده) , التّونسي عندما يأكل يفعل هكذا ,و يرفع صحن الطّعام إلى الأعلى حتّى يراه الجميع .. يقرّر أن يجالسني , يجالسني دون أن أمانع , يبدأ في الزّعيق  ثانية , يضرب على طاولتي بعصبيّة فائقة  , يقوم فجأة باتّجاه أحد المتسوّلين الدّاخل لتوّه إلى المقهى , يشتمه يكاد يلكمه ثمّ يطرده .. يعود لمجالستي .. أطلب منه أن يهدّئ من روعه ... يتجاهلني .. يقول إنّه يريد أن يضرم النّار في جميع التّونسيّين و إنّه يحقد عليهم و إنّهم مثل كلّ العرب ساقطون و  متحيّلون و أنذال و لئيمون و جرذان و لا يساوون فلسا على عكس "القورّة " المتخلقين و الأذكياء  ...  يشتم صاحب المقهى تحديدا لأنّه طلب منه مقابل الطّعام فيما هو يعرف  أنّه  من المحتاجين .. يخبرني أنّه يحبّ أم كلثوم أكثر من أمّه و أنّ أمّه لم تكن يوما كوكب الشّرق .. يثني على ابن خلدون في قوله "بنفاق أهل إفريقيّة" ,يعرّفني بنفسه قائلا  إنّه رجل  يفهم النّاس وفق علم الاجتماع و علم النّفس و الأعصاب و الفلسفة  و البيوكيميا و الهندسة و علم المعمار .. أبتسم و أطلب منه  أن يهدّئ من روعه وأن يستمتع يالأكل عوض أن ينشغل بما يوتّره ... ينهرني  ويصيح في وجهي بزعيق و شتيمة  طالبا منّي الصّمت و الاستماع إليه دون مقاطعته ... يقول إنّه رجل عظيم و إنّه لا يحبّ الاستماع إلّا إلى  العظماء و لذلك عليّ أن أصمت و أكتفي بالإنصات , أحاول تهدئته مرّة أخرى فيأبى , أبتسم و أهم بالخروج متمنّيا له يوما طيّبا ... يسألني عن إسمي و مسقط رأسي ... أجيبه .. يقول إنّ تسعين بالمائة من سكّان مسقط رأسي مغفّلون و متحجّرو العقول و إنّني – و لسبب أجهله – أنتمي إلى العشرة بالمائة  المتبقية  من  "الأذكياء " ... أبتسم حتّى الضحك  .. لا أنبس بحرف واحد , أغادر و أنا  أحسّ للوهلة الأولى  بالغيظ و الشّفقة , ثمّ , سريعا , بالخوف , متسائلا  عن مقدار  العبث الّذي يمكن أن تحمله الحياة كي تصنع بالنّاس ما تصنعه , هؤلاء النّاس الّذين كانوا ,جميعم , يوما ما أطفالا تماما مثلما كنت - أو ربّما  أتوهّم أنّني لا أزال - طفلا ...        

الأربعاء، 1 فبراير 2012

مجرّد تكريز


السّؤال هو الآتي : هل أنّ الأعراف و "القيم" الاجتماعيّة السّائدة تبلغ من القوّة و الرّسوخ ما يجعلها قادرة على محو الفارق - على مستوى السّلوك -  بين من هو مؤمن بها  و متماه معها و نسمّيه مجازا "العامي" و بين من يدّعي نقدها بغية تغييرها و نسمّيه مجازا  "المثقّف" ؟  يحتدّ هذا السّؤال في ذهني كلّما لاحظت ، داخل الأوساط الثّقافيّة  تحديدا ، تفاقم ذلك الشّرخ الصّارخ  بين الأفكار المدّعى تبنّيها و السلوك الفعلي و كأنّ المثقّف هو شخص "نخبويّ" الفكر "عاميّ" السّلوك  ، فالمطالبة بالعدالة الاجتماعيّة مثلا في النّصوص أو الاجتماعات  يقابله في الواقع تمجيد لصاحب رأس المال و احتقار لفاقده  ، انتقاد النّظام السّلطوي   يقابله رغبة جامحة في نفس هذه السّلطة ، الحديث عن المساواة بين الجنسين يقابله ميزوجينيا كريهة و مفاخرة بالذّكورة و المغامرات الجنسيّة و نعت النّساء المتحرّرات جنسيّا بأحقر النّعوت ، التّنديد بالعنصريّة و التّمييز يقابله تصنيف للنّاس وفق الجهات الّتي ينتمون إليها ، الدّفاع  عن الغيريّة والاختلاف يقابله نرجسيّة  و تضخّم مريب للذّات ، المناداة بالحوار و التّلاقح الفكري يقابله عنف و نزق يبلغان حدّ السّاديّة ، انتقاد النّمطيّة و القوالب الجاهزة  يقابله الحكم المسبّق ..إلخ.. ممّا يجعلك تشكّ فعلا في أنّ هؤلاء الّذين يدّعون الانتماء إلى  قيم مغايرة  لتلك السّائدة هم في الحقيقة إمّا يبحثون عن نوع من المفاخرة بهذه الأفكار "السّاحرة" و "المغرية"  و المتاجرة بها داخل "السّوق" الثّقافيّة من أجل الحصول على  سلطة معنويّة وبرستيج  وشبكة علاقات  و إمّا  "يحسدون" أصحاب النّفوذ و السّلطة و يسعون إلى  الحصول على حصّتهم داخل نفس النّظام   و بالتّالي يعيدون إنتاجه  ككرة الثّلج  ...هل هو المخيال البشري الحامل  لقيم و رؤى إنسانيّة نبيلة عاجز أمام واقع معقّد و فجّ   أم أنّ الحياة  بطبيعتها ليست سوى صراع من أجل البقاء مهما غُلّف ذلك بالثّقافة أو الفلسفة أو الاديولوجيا أو حتّى الفنّ ؟؟  أم هو شيء آخر ذلك الّذي يجعل من كلّ الّذين يقاومون هذه السكيزوفرينيا الاجتماعيّة  أوّل المعزولين و المهمّشين و الغرباء ؟؟؟؟