رجل في السّتين أو يزيد من عمره , نحيف , متوسّط الطّول , التقوّس الطّفيف في ظهره يجعل كتفيه بارزين قليلا , يلبس معطفا طويلا من القماش , يمشي بحذر بين زبائن المقهى مثل شبح , يمسح بعناية فائقة الطّاولة الّتي سيضع عليها الطّعام لاحقا و كأنّه يداعب جسد امرأة , يأتي بصحن فيه طعام , يضعه على الطّاولة .. , يضرب بعصبيّة على الطّاولة بكلتا يديه , يكفر, يزعق, يتّجه نحوي فجأة ثمّ يعود إلى طاولته في سرعة خاطفة , يداه لا تكفّان عن الحركة , عيناه متوتّرتان , متوجّس , لا يكاد يبدأ في الأكل حتّى ينقطع عنه , يمشي نحوي مرّة أخرى , ينظر إليّ , يمدّ يده نحو علبة سجائري , يخرج سيجارة , يشيح بنظره إلى الطّاولة الّتي على يميني حيث يجلس بعض الزّبائن , يغمز لي , يبدأ في الحديث و كأنّه على خشبة مسرح : التوّنسي عندما يدخّن يفعل هكذا ( و يرفع يديه بحيث يرى الجميع السّيجارة الّتي في يده) , التّونسي عندما يأكل يفعل هكذا ,و يرفع صحن الطّعام إلى الأعلى حتّى يراه الجميع .. يقرّر أن يجالسني , يجالسني دون أن أمانع , يبدأ في الزّعيق ثانية , يضرب على طاولتي بعصبيّة فائقة , يقوم فجأة باتّجاه أحد المتسوّلين الدّاخل لتوّه إلى المقهى , يشتمه يكاد يلكمه ثمّ يطرده .. يعود لمجالستي .. أطلب منه أن يهدّئ من روعه ... يتجاهلني .. يقول إنّه يريد أن يضرم النّار في جميع التّونسيّين و إنّه يحقد عليهم و إنّهم مثل كلّ العرب ساقطون و متحيّلون و أنذال و لئيمون و جرذان و لا يساوون فلسا على عكس "القورّة " المتخلقين و الأذكياء ... يشتم صاحب المقهى تحديدا لأنّه طلب منه مقابل الطّعام فيما هو يعرف أنّه من المحتاجين .. يخبرني أنّه يحبّ أم كلثوم أكثر من أمّه و أنّ أمّه لم تكن يوما كوكب الشّرق .. يثني على ابن خلدون في قوله "بنفاق أهل إفريقيّة" ,يعرّفني بنفسه قائلا إنّه رجل يفهم النّاس وفق علم الاجتماع و علم النّفس و الأعصاب و الفلسفة و البيوكيميا و الهندسة و علم المعمار .. أبتسم و أطلب منه أن يهدّئ من روعه وأن يستمتع يالأكل عوض أن ينشغل بما يوتّره ... ينهرني ويصيح في وجهي بزعيق و شتيمة طالبا منّي الصّمت و الاستماع إليه دون مقاطعته ... يقول إنّه رجل عظيم و إنّه لا يحبّ الاستماع إلّا إلى العظماء و لذلك عليّ أن أصمت و أكتفي بالإنصات , أحاول تهدئته مرّة أخرى فيأبى , أبتسم و أهم بالخروج متمنّيا له يوما طيّبا ... يسألني عن إسمي و مسقط رأسي ... أجيبه .. يقول إنّ تسعين بالمائة من سكّان مسقط رأسي مغفّلون و متحجّرو العقول و إنّني – و لسبب أجهله – أنتمي إلى العشرة بالمائة المتبقية من "الأذكياء " ... أبتسم حتّى الضحك .. لا أنبس بحرف واحد , أغادر و أنا أحسّ للوهلة الأولى بالغيظ و الشّفقة , ثمّ , سريعا , بالخوف , متسائلا عن مقدار العبث الّذي يمكن أن تحمله الحياة كي تصنع بالنّاس ما تصنعه , هؤلاء النّاس الّذين كانوا ,جميعم , يوما ما أطفالا تماما مثلما كنت - أو ربّما أتوهّم أنّني لا أزال - طفلا ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق